فصل: الفصل الثاني في آداب الكتاب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الضرب الثاني: الصفات العرفية:

قال المهذب بن مماتي في كتابه قوانين الدواوين: ينبغي أن يكون الكاتب أديباً، حاد الذهن، قوي النفس، حاضر الحس، جيد الحدس، حلو اللسان، له جراءة يثبت بها الأمور على حكم البديهة، وفيه تودة يقف بها فيما لا يظهر له على حد الروية، شريف الأنفة، عظيم النزاهة، كريم الأخلاق، مأمون الغائلة، مؤدب الخدام.
قال محمد بن إبراهيم الشيباني: من صفة الكاتب اعتدال القامة، وصغر الهامة، وخفة اللهازم، وكثاثة اللحية، وصدق الحس، ولطف المذهب، وحلاوة الشمائل، وخطف الإشارة، وملاحة الزي. قال: ومن حاله أيضاً أن يكون بهي الملبس، نظيف المجلس، ظاهر المروءة، عطر الرائحة، دقيق الذهن، حسن البيان، رقيق حواشي اللسان، حلو الإشارة، مليح الاستعارة، لطيف المسلك، مستفره المركب، ولا يكون مع ذلك فضفاض الجثة، متفاوت الأجزاء، طويل اللحية، عظيم الهامة، فإنهم زعموا أن هذه الصفات لا يليق بصاحبها الذكاء والفطنة؛ ولله القائل!:
وشمول كأنما اعتصروها ** من معاني شمائل الكتاب

وقال أبو الفضل الصوري: ينبغي أن يكون الكاتب فصياً بليغاً أديباً، سني الرتبة، قوي الحجة، شديد العارضة، حسن الألفاظ، له ملكة يقتدر بها على مدح المذموم وذم المحمود.
قال المهذب بن مماتي: أما حسن الهيئة فإنه يرجع في ذلك إلى ما يعلمه من حال مخدومه من إيثاره إظهار نعمته على من هو خدمته أو إخفائها. قلت: وهذا قد يخالف ما تقدم: من أنه ينبغي أن يكون الكاتب بهي الملبس. وبالجملة ففصاحة اللسان، وقوة البيان، والتقدم في صناعة الكتابة هو الذي يرفع الرجل ويعظمه دون أثوابه البهية، هيئته الزاهية. بل ربما كان التعظيم في الفضل لرث الحالة المنحط الجانب أكثر، وترجيحه على غيره أقرب.
وقد قال سهل بن هرون كاتب المأمون، وهو من أئمة هذه الصناعة: لو أن رجلين خطبا أو تحدثا أو احتجا أو وصفا وكان أحدهما جميلاً بهياً، ولباساً نبيلاً، وذا حسب شريف؛ وكان الآخر قليلاً قميئاً، وباذ الهيئة دميماً، وخامل الذكر مجهولاً، ثم كان كلامهما في مقدار واحد من البلاغة، وفي درب واحد من الصواب، لتصدع عنهما الجمع وعامتهم يقضي للقليل الدميم على النبيل الجسيم، وللباذ الهيئة على ذي الهيئة، ويشغلهم التعجب منه عن مناوأة صاحبه، ولصار التعجب على مساواته له سبباً للتعجب به، والإكثار في شأنه علة للإكثار في مدحه؛ لأن النفوس كانت له أحقر، ون بيانه أيأس، ومن حسده أبعد؛ فلما ظهر منه خلاف ما قدروه وتضاعف حسن كلامه في صدورهم كبر في عيونهم: لأن الشيء من غير معدنه أغرب؛ وكلما أعجب كان أبدع؛ وإنما ذلك كنوادر الصبيان وملح المجانين؛ فإن استغراب السامعين لذلك أعجب، وتعجبهم منه أكثر. قال: والناس موكلون بتعظيم الغريب واستظراف البديع، وليس لهم في الموجود الراهن ولا فيما تحت قدرتهم من الرأي والهوى مثل الذي معهم في الغريب القليل وفي النادر الشاذ؛ وعلى هذا السبيل يستظرفون القادم إليهم، ويرحلون إلى النازح عنهم، ويتركون من هو أعم نفعاً، وأكثر في وجوه العلم تصرفاً، وأخف مؤونة وأكثر فائدة.

.الفصل الثاني في آداب الكتاب:

وهي على نوعين:

.النوع الأول: حسن السيرة وشرف المذهب:

ولذلك شروط ولوازم منها:
اعتماد تقوى الله تعالى في الإسرار والإعلان، والإظهار والإبطان، والمحافظة عليها، والاستناد إليها في مبادي الأمور وعواقبها. فإنه العروة التي لا تنفصم، والحبل الذي لا ينصرم، والركن الذي لا ينهدم، والطريق التي من سلكها اهتدى، ومن حاد عنها ضل وتردى؛ والمحافظة على شرائع الدين التي فرضها الله تعالى على خلقه والحذر من الاستخفاف فيها. بحقه، وتوقي غضبه بتأديتها، والاستجنان من شقاء الدنيا والآخرة بتوقيها.
ومنها طلب الأجر بما ينيله من عز سلطانه ويجديه من فواضل نعمائه، وهذا هو أصح الأغراض التي يجب على كل عاقل أن يقدمه على كل غرض، ويحصل منه على السهم الوافر؛ فلا خير في دنيا تنقطع السعادة عنها، وإنما السعادة بعد الموت {والدار الآخرة خير} ومن اختار الفاني المنصرم على الباقي الدائم، فقد خسرت صفقته، وبارت تجارته.
والطريق الموصل إلى هذا المقصد صلاح النية فيما يتولاه من أمور السلطان، وقصد النفع العام له ولرعيته، والاجتهاد في إغاثة الملهوف، والأخذ بيد الضعيف، والنفع بجاهه عند سلطانه، وحمله على العدل في الرعية، فإذا توخى ذلك فاز بثواب الله تعالى، وقضى حق السلطان فيما عرضه له من الشكر والأجر، وقابل نعمة الله التي أقدره بها على هذه الأفعال الجميلة بما يرتبطها عنده ويستقر بها لديه.
ومنها: مجانبة الريب والتنزه عنها، والطهارة منها. فإنها تسخط الله تعالى، وتذهب بمهابة المرء، وتسقطه من العيون والقلوب. وأحق من راعى ذلك من نفسه من بين أتباع السلطان أهل هذه الصناعة لاختصاصهم به، ولطف منزلتهم عنده. إذ المشهور عند نقلة الآثار أن الذين تقدموا من صدورها ومشايخها كانوا من جلة العلماء، وسادة الفقهاء، وأفاضل أهل الورع، المبرئين من الدنس والطمع، المميزين على القضاة والحكام في الاستقلال بعلوم الإسلام، المتميزين عنهم بفضل الآداب، ورواية الأشعار، والعلم بالأيام والسير، والارتياض بآداب الملوك وعشرتهم ورسوم صحبتهم، وغير ذلك مما ينتظم في صناعتهم. فقد ساووهم في علم الدين، وفاقوهم فيما تقدم ذكره مما لا يشاركونهم فيه. والسلطان والدين قرينان لا يفترقان، وعونان على صلاح البلاد والعباد، فلا يحتمل السلطان ما ينكره الدين لأنه تابعه ورديفه.
ومنها: لزوم العفاف والصيانة فيما يتولاه للسلطان من أعماله، ويتصرف فيه من أشغاله، والتعفف عن المطامع الذميمة، والمطاعم الوخيمة، والترفع عن المكاسب اللئيمة؛ فإن ذلك يجمع القربة إلى الله تعالى والحظوة عند السلطان، وجميل السيرة عند الرعية، حتى إن هذه الطريقة قد تقدم بها عند السلطان المتخلفون في الفهم والمعرفة، وسادوا على من لا يقاربونه في غناء ولا كفاية، وحصلوا على الأحوال السنية، والمنازل العلية؛ وقرب بها من كان بعيداً على من كان قريباً، ومن لا مكانة له ولا حرمة على من له مكانة وحرمة، واستبدني لأجلها من لأجلها من لا يترشح لخدمة السلطان. ثم الذي يلزمه أن يعتمد التمسك بالصيانة والعفاف الذي عليه نظام معيشته، والارتفاق فيما يحل ويطيب له من جاه خدمته، فإن قد قيل الزم الصحة يلزمك العمل؛ لأنه يتمنع من المنافع التي تصل إليه من أطيب المكاسب، وتسلم من تبعات العاجل والآجل، وتخلص من قبيح الأحدوثة وإطلاق ألسن الحسدة بالطعن والتأنيب، وينال بجاه السلطان ونفوذ الأمر من غير خيانة للمؤتمن ولا اشتكاء للرعية، فإنه لولا هذه المنافع لغي الإنسان بالقناعة، ورضي بالكفاف، وسلم من المخاطرة بدينه ودنياه في سلامة السلطان. إذ لا يجوز أن يستفرغ وسعه ويعرض نفسه للخطر فيما لا تحسن له عائدة، ولا تخلص منه فائدة، في جاه ولا مال. وقد علم ما كان عليه أهل هذه الطبقة في سائر الدول وما حصلوه من الذخائر واقتنوه من القنيات النفيسة، التي أقدرتهم على إظهار مروءاتهم، واتخاذ الصنائع عند الأحرار، وحراسة النعم على الدوائر والأعقاب. وإنما حصلوا على ذلك من حيث معرفتهم بوجوه المكاسب، وأبواب المرافق، لا من الخيانة وذميم الطعم. لأنهم كانوا في أزمنة لا يغضى فيها عن متكسب من رشوة ولا مصانعة ولا اغتصاب ولا سبب من أسباب الظلم وإن جلت منزلته وعظمت مرتبته.
ومنها طلب الثناء والحمد وهو من أفضل المقاصد السنية وأعلاها رتبة، لأنه يتلو الأجر في البقاء والدوام، وكلما كانت الهمة أعظم وأشرف، كانت إليه أرغب وبه أكلف. ولفضل هذا رغب فيه الأشراف وعليه الناس حتى قال الخليل عليه السلام: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين}. وأولى الناس باقتناء ذخائر الحمد وافتراض فرض الشكر من عرض الله جاهه، وطول يده، وأمضى عند السلطان لسانه، فينبغي أن يختار هذه المكرمة، ويقوم بالنصيب الأوفر منه، ولا يبخل بجاهه ولا ماله على قاصد ولا مؤمل ولا ذي رحم وذمام، ولا يضجع في أمر بطانته وحاشيته وأصاحبه، ولا يضيق عليهم مع سعته، ولا يقصر بهم في كفايته، ويجعل اكتسابها بجاهه وماله دون أموال سلطانه، فإن كثيراً من المتصرفين بذلوا ما اؤتمنوا عليه في هذا الغرض ورضوا به أهل الشفاعات والرسائل، فأعقبهم ذلك زوال النعم، وسقوط الرتبة وذهاب المال، والوسم بميسم الخيانة والبوار إلى الأبد. ولا يبالغ في ابتناء المعالي واقتناء المحامد وبذل الرغائب وارتفاع الهمم، فإن ذلك مما يختص بالملوك ولا ينبغي لأحد من أتباعهم من كاتب ولا غيره الإقدام عليه مفاخراً ولا مكاثراً ولا مقابساً، فيكون قد عدا طوره، وأضل رشده، وتعرض للعطب مع سلطانه، وأوجد الطريق إلى سوء الظن به، وفوق سهام الحسدة إليه، وأطلق أسنتها بالطعن عليه، وربما أدى به ذلك إلى سقوط المنزلة أن سلمت نفسه.
ومنها الاقتصاد في طلب اللذة، والاقتصار من ذلك على ما يقيم المروءة من أفضل الأخلاق وأشرفها: بأن يكون تنأولهم ما يتنأولونه من ذلك بسلوك طريقة محمودة يظهر فيها أثر التدبير السديد والرأي الأصيل، من غير خروج إلى الإقبال على اللذات، والانهماك في الشهوات. فإن ذلك غير مستحسن لملك ولا سوقة لأنه جالب للأسقام، قاطع عن الأمور المهمة التي يجب صرف العناية إليها في صلاح المعاش وأمر الآخرة؛ ولكن لا يكلف ترك اللذات جملة، إذ لا بد لكل أحد من ذوي الرتبة العلية من الأخذ بنصيب منها، لما جبلت عليه الطبائع من الميل إليها والرغبة في الاستمتاع بالنعم والملاذ ولكل منها حظ يضاهي رتبته.
وأهل هذه الصنعة لاختلاطهم بالملوك ومشاركتهم لهم في آدابهم لا غنى بهم عما يقيم مروءاتهم من اللذات المشابهة لأقدارهم ومواضعهم من السلطان.

.النوع الثاني: حسن العشرة:

التي هي من أفضل الخلائق الموجودة في الغرائز طبعاً والحاصلة بالتخلق تكسباً وتطبعاً، وأعونها لمصالح الحياة والمعاش ومحبة الخاصة والعامة وحصول الثناء والشكر والمودة من الأفضل والأخيار، وكفاية الأراذل الأشرار، وإن لم يلتزمها الكاتب طوعاً حمل عليها كرهاً.
واعلم أن أدب المعاشرة على خمسة أضرب:
الضرب الأول: عشرة الملوك والعظماء:
قال علي بن خلف: ولا يقوم بآدابها وأكمل رسومها إلا من علت في الأدب درجته، وسمت في رجاحة العقل منزلته، وتميز بغريزة فاضلة وأدب مكتنسب، وصبر على المشاق في التحلي بالهمم الشريفة، والسمو إلى المنازل اللطيفة، من عز السلطان ومساعدة الزمان، وتمكن من تصريف النفسين الحيوانية والشهوانية على أغراض الناطقية ومطاوعتها، وأخذهما بقبول ما ترشد إليه وتبعث عليه؛ لأن صحبة السلطان أمر عظيم وصاحبه راكب خطر جسيم، بتمليكه نفسه لمتحكم في شعره وبشرهن قادر على نفعه وضره، لا يردعهن مقابلته على يسير الخيانة بكبير النكابة إلا ما يؤمل من صفحه ومسامحته، ويرجو من عطفه ورأفته. وأول ما يجب على المتصل بخدمة السلطان النظر في عواقب أموره، وحفظ نفسه من جريرة يجرها عليها بإغفاله فرضاً من فروض طاعته، وتضيعه المحافظة على حقوق خدمته، والعلم بأن لكل مصحوب خلقاً يغلب عليه، ويرجع بغريزة الطبع إيه، لا يمكنه النزوع عنه ولا المفارقة له؛ إذ الانتقال عن الطباع، شديد الامتناع في الخدم والأتباع؛ فيكف الملوك والرؤساء الذين لا يقابلون بلوم على خلق مذموم؛ بل العادة جارية في أدب خدمتهم بأن يصوبوا ما يركبونه من خطإ وحسنوا متات يواقعونه من قبح فعليه أن ينزل عن أخلاقه لأخلاق سلطانه، وما خلف سجيته في إصلاح زمانه، وأن ينزل عن هواه لهواه، ويتبع فيما يسخطه ويأباه، ما يؤثره سلطانه ويرضاه. وينبغي أن لا يعرض نفسه لما يسقط منزلته ويفسد عاقبته ولا يوجد للزمن طريقاً إلى التنكر له، ويعينه بتفويق سهامه والتصدي لمواقعها،. وقد علم أن الزمان وأن عم بنوائبه فإنه يخص صاحب السلطان منا بما يزيد على نصيب غيره. ومن أشق الأحوال أن يدفع الإنسان إلى تغير السلطان مع كون السبب في ذلك شيئاً جره إلى نفسه بسوء اختياره، لما يجتمع عليه في ذلك من مرارة النكبة، وحرارة المغبة، وتقريع من يزري على عقله، ويؤنبه بجهله.
ثم أنه لزمه بعد الاحتياط فيما تقدم عدة خصال أيضاً.
منها الإخلاص وهو قوام الأمر في المصاحبة؛ فإن من صحب سلطاناً بعقيدة مدخولة في ولايته، مشوبة في محبته، لم ينتظم له ولا لسلطانه أمر؛ لأن الضمائر المذوقة والنيات السقيمة لا بد أن يصرح بما فيها ويظهر ما في دخيلتها؛ وإذا اتضح ذلك للسلطان لم يقنع إلا بإتلاف نفسه، وإذهاب مهجته.
ومنها النصيحة، وهي ترب الإخلاص. والطريق الموصل إلى التوفية بها أن يطالع السلطان بكل ما يفتقر إلى العلم به من خاص أموره وعامها؛ وعلى من استخلصه السلطان لنفسه، ائتمنه على رعيته، وأنطقه بلسانه، وأخذ وأعطى بيده، وأورد وأصدر برأيه، وتخيره لهذه المنزلة من بين رؤساء دولته وأعيان مملكته، أن لا يستر عنه دقيقاً ولا جليلاً من أحوال ما فوضه إليه، ولا يقف عن إنهاء تفاصيله وجمله توقياً من لوم لائم، ولا يحمله فرط النصح له على الإضرار برعيته، ولا الرغبة في إثبات حقه على تضييع حقوقها، ولا القيام بما يجب له دون ما يجب لها. فإنها به وهو بها.
ومنها الاجتهاد فيما يباشره من أحوال سلطانه بما يعود عليه نفعه بحيث لا يبقي في ذلك ممكناً، ولا يدع فيه شأوا للاحق.
ومنها كتمان السر. وهو من أفضل الآداب في صحبة السلطان وغيره، وأعودها بالفلاح على صاحبها لأن كثرة الانتشار الداخل على الدول إنما توجه بتفريط بطائنها وصاحبها في أسرارها، وإظهارهم بما تقرر في أذهان الملوك وعزائهم قبل أن يظهروه؛ فيجد العدو بذلك الطريق إلى معالجة آرائهم بما ينقضها، ومقابلتها بما يفسدها. على أن إفشاء السر من الأخلاق التي طبع أكثر الناس عليها، وجيل بينهم وبين الإقلاع عنها؛ فمن علم من نفسه ذلك فليحذر معاملة السلطان في أسراره وبواطن أموره، ولا سيما ما وجد منها في باب حروبه ومكايده، فإنه إن ظهر منه على خيانة في السر، عرض نفسه للهلكة.
ومنها الشكر فإنه وإن كان واجباً على الإنسان مع أكفائه ونظرائه فإنه مع السلطان الذي يستظل بظله، ويستدر أخلاف فضله أوجب. إذ المرء قد يقدر على مكافأة عارفة صديقه بما يضاهيها ويزيد عليها، ولا يقدر على مكافأة سلطانه إلا بشكر نعمته، والمحافظة على حقوق خدمته. ثم الشكر بالقول يرتفع بني الرئيس والمرؤوس، والخادم والمخدوم، إلا اليسير الذي يقضي به حق الخدمة: لأن الإكثار منه داخل في حكم الملق والتثقيل؛ وإنما يظهر شكر الخادم من أفعاله.
ومنها الوفاء، وهو من أهم الخصال اللازمة وآكدها؛ إذ هو الطريق إلى صلاح العابد وعمارة البلاد؛ بل هو رأس مال الكاتب وربحه ودوام عمله، والسبب الذي لأجله ترغب السلاطين في صحبته: لأنهم ما برحوا يقربون صاحب هذه الخصلة ويرونه أهلاً للاختصاص، موضعاً للثقة؛ ولا أسوأ حالاً ممن نزل هذه المنزلة وهو بخلافها.
ثم الوفاء يكون بإظهار النصيحة، وبذل الاجتهاد، وقصد المخالصة، ومقابلة كل نعمة تفاض عليه بالنهضة فيما استند إليه: ليدعو ذلك سلطانه إلى رب النعمة لديه، وإقرار ما عليه.
ومن شروط الوفاء أن يلتزمه صاحبه لسلطانه، في حال سعادته، وإقبال دولته، وفي حال توليها عنه وعطلته. أما في حال إقبال الدولة عليه فأن يصحبه بقلبه دون بدنه ولا يتطلب صاحباً غيره ينتقل إلى صحبته، ويستبدل بخدمته من خدمته، ولا يحدث نفسه بأنه متى وجد أنفع منه عدل إليه، ولا أن يرتب له جهة أخرى يجعلها مقدمة لأمر يترقبه: لما في ذلك كله من الخروج عن حد الإخلاص المقدم وجوبه. وأما في حال انصراف الدولة عن صاحبه، فإنه لا يباينه مباينة المساعد للزمان عليه، المرافق للمقادير فيه، ولا يخونه عند حاجته إليه، ولا يضيع حقوقه عنده وصنائعه لديه، ولا ينحاز بكليته إلى من أقلت أمور السلطان عليه؛ فإن ذلك مما يدل على خبث السجية ومقابلتها على الإحسان بالإساءة، واستعمال العقوق، واطراح الحقوق.
ومنها: مجانبة الإدلال إذ الدالة على السلطان والرئيس من أعظم مصارع التلف، وأقرب الأشياء إلى زوال النعم، ولأجلها هلك من هلك من بطانة السلطان وخاصته ووزرائه؛ وفي قصصهم عبرة لمن أنعم النظر في تأملها. وعليه أن يعول في الاعتداد بخدمه ونصائحه له على اشتهارها وظهورها، ولا يفيض في تعديدها وذكرها، ولا يواصل التثقيل بأغراضه والإلحاف بأسئلته، ولا يظهر التشجب عند التقصر به، ولا الغضب اتكالاً على سالف خدمة، وقيل حرمة؛ وأن يتناسى ما أسلفه من الخدمة والصحبة، ويكون في كل حال عارفاً بعوارفه، معتداً بفواضله، موجباً الفروض له لا عليه، فإن السلطان مجبول على أنفة النفس وعزتها، ولا يحتمل التنازل لأحد: لتنزيله الكل منازل الخدم والأرقاء، واعتقاده أنه سبب النعمة السابغة على الكافة، وثقته بوجود العوض عمن يفقده من الأعوان والأصحاب، ومثابرة الناس على خدمته والانتساب إلى متابعة لما يصلون إليه من الحظوة، وينالونه من الجاه والثورة. وإن كان في باطن حاله على خلاف ما يؤثر، أظهر الشكر والاعتداد وتلطف في بلوغ الغرض بأحسن تعريض، ولم يطلق قلمه كاتباً، ولا لسانه مخاطباً؛ فإن ذلك إزراء على همة المصحوب، ودلالة على إخلاله بتفقد الصاحب، لكن يذكر النعمة وسبوغها، والمنة وشيوعها، ويسأل الزيادة فيها ومضاعفتها. فإن ذلك يقضي ببلوغ آماله، وسداد أموره، وسهولة مطالبه؛ وإذا زاده السلطان رفعة وتشريفاً ازداد له تعظيماً وتوقيراً. وإذا بسط يديه أن ينقبض عن كل ما يشينه، وإذا خصه بأثرة وتقريب أن يزيد الخاصة والعامة بشراً وإيناساً، وإن اتهمه بهفوة لم ينته في إقامة العذر والاحتجاج على براءة الساحة إلى الغاية القصوى، بل يتوسط في ذلك ويسال من حسن الصفح والإقالة وجميل التغمد والعفو ما يجعل للإحسان وجهاً، ولتعقبه للسخط سبباً. فإنه إذا صدع بالحجة في براءة الساحة، فلا وجه لمعذرته وفيه تكذيب لرئيسه، وربما أدى إلى فساد ومفاقمة.
ومنها: التمسك بآداب الخدمة بالمواظبة عليها، وصرف الاهتمام إليها؛ إذ هي أعظم الذرائع إلى نيل الرتب وبلوغ المآرب، والسبب الذي يقرب البعداء، ويرفعهم على أهل الوسائل والحرم، وذوي الموات والخدم؛ ويعمي عن كل شين، ويصم عن كل طعن. وما نال أحد عند السلطان مرتبة إلا والمواظبة على خدمته سببها والمواصلة موجبها. وأولى الناس بلزوم السلطان كتابه الذين لا غنى به عن حضورهم، في ليله ونهاره، وأحيان شغله وفراغه: لأنه رما بدهه ما يحتاج إلى استكفائه إياه وإسناده إليه، وإن تأخر عنه في تلك الحال استدعى من موجدته واستجر من لائمته مالا يزيله العذر إلا في المدة الطويلة. وربما اضطر لغيبته إلى إحضار من يستكفيه ما عرض له وأدى ذلك إلى اصطناعه وتصيره في مقامه وإن كان لا يساويه في فضل ولا علم ولا غناء، بخلاف ما إذا وجده مسارعاً إلى أمثلته؛ فإن ذلك يزيد في حظوته، ويدعو إلى استخلاص مودته.
فيجب عليه أن يخص سلطانه من زمانه بالقسم الأوفر، والنصيب الأغزر، ولا يؤثر نيل لذة عليه، ولا بلوغ وطر إذا أدى إلى تنكره؛ فإن استطاع أن يوافقه على وقت يفرضه له يتمكن فيه من بلوغ أوطاره، والوصول إلى مقاصده، كان أحمد لعاقبته، وأبلغ لقصده، وأحسم لأسباب اللائمة في غيبته. ولا ينهمك في الملاذ انهماك الآمن بل يقف عند الحد الذي يبقي فيه فضلة لعوارض السلطان ومهامته الحادثة في آناء الليل، وساعات النهار. فإن تعبه في صلاح زمانه وراحة سلطانه مستبق لنعمته، مستدع لزيادته. ولا يشتغل بكبير الأمور عن صغيرها، ولا يبتهج بما أصلحه منها حتى ينظر في عواقبه، ويسوس ما رد إليه بالسياسة الفاضلة: فلين في غير ضعف، ويشتد في غير عنف، ويعفو عن غير خور، ويسطو من غير جور، ويقرب بغير تدله، ويبعد بغير نكر، ويخص في غير مجازاة، ويعم في غير تضييع، فلا يشقى به الحق وإن كان عدواً، ولا يسعد به وإن كان ولياً.
ومنها: إذا حضر بين يدي سلطانه أو رئيسه في المجلس الخاص أو العام أن يعتمد مقابلته بالإجلال والإعظام، والتوقير والإكرام؛ ولا يحمله تأكد الخدمة وتطأول الصحبة على إهمال ذلك بل يحفظ رسمه، ولا يغير عادته.
ومنها: أن يتخير لخطابه في الأغراض والأوطار أوقاتاً يعلم خلو سره فيها، وفراغ باله، وانشراح صدره، وارتفاع الأفكار عن خاطره: إلا إن كان ما يخاطبه فيه أمراً عائداً بانتظام سلطانه، واستقامة زمانه، داخلاً في مهمات أعماله التي متى أخرها نسب إلى التقصير؛ فيقدم الكلام فيها خف أو ثقل. وإذا خاطبه رئيسه من سلطان أو غيره في أمر من الأمور، فعليه أن يرعيه عينه، وينصت إليه سمعه، ويشغل به فكره، ولا يستعمله فيما يعوقه عنه حتى يستوعب ما يلقيه إليه، ويجيبه عنه أحسن الجواب، ولا يلتفت في حال إقباله عليه إلى غيره، ولا يصغى إلى كلام متكلم، ولا حديث متحدث، حتى لو امتحنه باستعادة ما فاوضه فيه وجده قد أحرز جميعه؛ فإن التقصير في ذلك مما ينكره الملوك والرؤساء، ويستدلون به على ضعف المخاطب. وإن كان فيما خاطبه فيه أمر يحتمل التأخير بادر بالاعتذار عنه: لئلا ينسب إلى التقصير بتأخيره عند الكشف عنه؛ وإن كان فيه ما يخالف الصواب أمضاه، وإن تعذر السبيل إلى فعله لم يظهر التقاعس عنه لتحطئته، بل يقابله بالاستصواب، ثم يتلطف في تعريفه مكان الخطإ فيما رآه.
ومنها: أن يجري في الحال في مجالسه على ما يعود بوفائه وإرادته: فإن مال إلى الانبساط أطلق عنانه فيه إطلاق المتجنب للهجر والتفحش، ورفث القول تابعاً لإيثاره، قاضياً لأوطاره. وإن أظهر الانقباض ذهب مذهبه في ذلك، ولا ينبغي أن يخالفه في حال من أحواله؛ فإن من شروط هذه الخدمة أن يتصرف صاحبها في كل ما يصرف فيه، ويسرع الانقياد إلى كل ما يدعى إليه، ولا يكثر من الدعاء لرئيسه والثناء عليه والشكر على ما يوليه من العوارف فإن مثل ذلك يستثقل.
ومنها: أن لا يحضر سلطانه في ملابسه التي جرت العادة أن ينفرد بها كالوشي ونحوه؛ إلا أن يكون هو الذي يشرفه بها، وأن يقتصد في لباسه: فينحط عما يلبسه سلطانه ويرتفع عما يلبسه السوقة، ويصرف عنايته إلى التنظف والتعطر، وقطع الرائحة الكريهة من العرق وغيره، حتى لا تقع عين رئيسه على دنس في أثوابه، ولا يجد منه كريه رائحة في حال دنوه منه؛ ويواصل استعمال الطيب والبخور الفائق والتضمخ بالمسك؛ فإن الملوك ترى أن من أغفل تعهد نفسه كان لغيرها أشد إغفالاً.
ومنها: أن يتجنب التفاصح والتعمق في مخاطبة رئيسه، والافتخار عليه بالبلاغة والبيان: لما في ذلك من الترفع عليه في الكلام، بل يجعل ما يلقيه إليه ضمن ألفاظ تدل على معانيها بسهولة مع غض من صوته، وخفض من طرفه، وسكون من أعضائه: لأنه إنما يتسامح بالإتيان بالفصاحة والذهاب بمذهب الجزالة للخطباء الذين يثنون على الملوك في المواقف العامة ضرورة احتياجهم إلى استعمال ألفاظ تقع في الأسماع أحسن المواقع.
ومنها: أنه إذا تميز عند رئيسه وارتفعت رتبته لديه أن يجمل القول في خاصته وعامته، ويحسن الوساطة لحاشيته ورعيته، ويتجنب القدح عنده في أكفائه ونظرائه من بطانته، والمقربين من حضرته، ليكون ذلك داعياً إلى محبته والثناء عليه مكافأة وإمساك الألسن عن الطعن فيه.
ومنها: أن يبادر إلى المشورة عليه بالصواب فيما يستشيره فيه، ويورده إيراد مستفيد لا مفيد، ومن تعلم لا معلم، ويتلطف في أن يوقعه من نفسه موقعاً يدعوه إلى العمل به. فإن من عادة الملوك والرؤساء الأنفة من الانقياد إلى ما ينتحله غرهم من الآراء ولو كانت صائبة؛ وإن تمكن من صياغة حديث يودعه فيه فعل مخادعة بذلك لنفسه الأبية وعزته المتقاعسة.
الضرب الثاني: آداب عشرة الأكفاء والنظراء:
قال علي بن خلف: ولا شك أن طريقة الاعتدال في ذلك الموافاة في الإخاء، والمساواة في الصفاء، ومقابلة كل حالة بما يضاهيها. أما المسامحة بالحقوق والإغضاء عمن قصر، والمحافظة على ود من فرط، فلا خلاف في فضله والتمدح بمثله، لا سيما لمثل أهل هذه الصناعة التي يرتفع حق الاعتزاء إليها عن حقوق القرابات الدانية، والأنساب الراسخة. ولذلك وقع في كلام بعضهم الكتابة نسب. قال علي بن خلف: والمعنى فيه أن التناسب الحاصل بين أهلها تناسب نفساني لا جسماني، يحصل عن تناسب الصور القائمة في نفوسهم بالقوة، وعن تناسبها بعد خروجها وظهورها من القوة إلى الفعل، بدليل ما نراه من اتفاق خواطرهم على كثير من المعاني التي يستنبطونها، وتواردهم فيها. ولولا تناسب الغرائز وتشابهها، لم يكن أن يتواطؤا في أكثر الأحوال على معان متكافئة متوافية.
قال: وإذا كنا نحفظ من مت إلينا بالأنساب الجسمية التي لا تعارف بينها فأولى أن نحفظ من مت إلينا بالأنساب النفسانية التي يصح منها التعارف. ولذلك قال الحسن بن وهب: والكتابة نفس واجدة تجزأت في أبدان متفرقة. وقال: لا عبرة بما يقع بني بعضهم من التنافر والتباين، لأن المناسبة إنما تقع عند المساواة. أما من وقع دون رتبة الآخر من الفضيلة فليس بمناسب له فيصير القاصر حاسداً لمن فوقه، للتقصير الذي فيه.
وبكل حال فإنه يجب عليه أن يعرف لأكفائه حقهم، ويحفظ مناسبتهم، ويتوخى مساهمتهم، ويتلقاهم بالإكرام والتمييز، ويجعلهم في أعلى المراتب عنده، ويزيدهم على الإنصاف ولا يقصر بهم عما يستوجبونه ويستحقونه، ويتخول بمثل ذلك نظراءه في الرياسة من غير الكتاب، وإن تعذر عليه الوصول إلى ملتمسهم أطاب قلوبهم بالوعد الجميل في المستقبل، واجتهد في الوفاء به.
الضرب الثالث: آداب عشرة الأتباع:
قال علي بن خلف: وهي لاحقة بعشرة الأكفاء: لأن الذين يستعين بهم الكاتب يدعون كتاباً ولا يدعون أعواناً؛ وإنما الأعوان خدام الشرطة ومن يجري مجراهم قال: وهم وإن كانوا أصحاب الكاتب ومرءوسيه وأتباعه، فاسم الكتابة يجمع بينه وبينهم، ومعاشرتهم داخلة في باب التكرم، والتفضيل، والاستئثار بمحاسن الأفعال ومكارم الشيم.
ثم قال بعد ذلك: وينبغي أن يخصهم بالنصب الأوفر، من إكرامه، والقسم الأغزر، من ملاحظته واهتمامه، ويفرض لهم من التقديم والاختصاص وتفقد الأحوال والشؤون، والذي ينتهي إليه أمل المرؤوس من الرئيس: ليجعل خدمتهم له بذلك خدمة مقة ومودة، لا خدمة خوف ورهبة؛ وأن يحبب خدمته إليهم بترك مناقشتهم، والتضييق عليهم، وإنالتهم من الترفيه في بعض الأوقات ما يجدون به السبيل إلى الأخذ بنصيب من لذاتهم وأوطارهم التي تميل النفوس إليها، وتتهافت عليها؛ فإنهم متى لحقهم التعب والنصب، اعترضهم الضجر والملال، فقصروا في الأعمال، وتهاونوا بالأشغال؛ فلا بد لهم من راحة تصفو بها أذهانهم. ويزول عنها الكلال، ولا يفسح لهم في مواصلة الراحة والإخلال بما يلزمهم؛ فإن ذلك يحمل على سوء العادة وقبح المذهب. وعليه أن يحفظ لهم حقوق الصحبة والخدمة ويوجدهم من الإعانة ما فيه صلا حالهم؛ فإنه يستعبدهم بذلك ويستخلص مودتهم، إذ القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها.
الضرب الرابع: آداب عشرة الرعية:
قال ابن خلف: وهو أمر عظيم النفع، جسيم العائدة، قاض بالسلامة، إذ لا يطيب لأحد عيش مع بغض الرعية له، ونفورهم عنه، وإن علت عند السلطان رتبته، وارتفعت طبقته. وطن بنفسه الاستغناء عنهم. قال: فينبغي أن يوفر العناية على استصلاحهم له، واستمالة أهوائهم إليه، ولين الجانب، ووطاءة الكنف، وخفض الجناح، والبسط والإيناس وتألفهم: كما يوفرها على استصلاح السلطان وسياسته، لتصح له رتبة التوسط بين الطبقتين، ويسلم من طعن الطاعن، ولو اللائم، ويبرأ من البغض والشحناء، وينقلهم عما تسرع إليه الطباع الرديئة: من الحسد والإيذاء إلى التألف والمودة. وقد أدب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك}.
الضرب الخامس: آداب عشرة من يمت إليه بحرمة:
كالجار، والقاصد، والآمل، والمدل بحق المفاوضة، والمطاعمة، والمحاضرة، والسلام والمعرفة في الصبا، والصداقة بين الآباء وغير ذلك من الحرم التي لا يطرحها أهل المروءات قال ابن خلف وينبغي أن يوفيهم حقوقهم، وينهض بما يسنح من أوطارهم. ومهماتهم، ويعينهم على ما يحدث من نوائب زمانهم، ويسعد في بلوغ مطالبهم من سلطانهم، ولا يضن عليهم بجاه ولا مال، ولا يخيب أمل آملهم ولا قصده، ويفرض لهم من إذعانه واعتنائه ما يعز جانبهم، ويسهل مآربهم، ويكف الضيم والظلم عنهم، ويبسط العدل والإنصاف عليهم، فإنه إذا التزم ذلك لهم التزموا له الإعظام والإجلال، وأطلقوا ألسنتهم بالثناء عليه، والاعتداد بأياديه، وأشاعوا ذلك بين أمثالهم فاجتلبوا له مودتهم وتعصبهم له.
قلت: ومن تمام آداب الكاتب وكمالها أن يعرف حقوق مشايخ الصناعة وائمتها الذين فتحوا أبوابها، وذللوا سبلها، وسهلوا طرقها، ويعاملهم بالإنصاف فيما أعملوا فيه خواطرهم، وأتعبوا فيه روياتهم فينزلهم منازلهم ولا يبخسهم حقوقهم. فمن آفات هذه الصنعة على ذوي الفضل من أهلها أن القاصر منهم لا يمتنع من ادعاء منزلة المبرز بل لا يعفيه من ادعاء التقدم في الفضل عليه، والمبرز في الفضل لا يقدر على إثبات نقص المتخلف {والله يعلم المفسد من المصلح}. ثم أصل هذه الآداب الذي تفجرت منه، رسالة عبد المجيد بن يحيى الكاتب، التي كتبها إلى الكتاب يوصيهم فيها، وهي: أما بعد، حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة، وحاطكم ووفقكم وأرشدكم! فإن الله عز وجل جعل الناس بعد الأنبياء والمرسلين، صلوات الله عليهم أجمعين. ومن بعد الملوك المكرمين أصنافاً، وإن كانوا في الحقيقة سواء، وصرفهم في صنوف الصناعات، وضروب المحاولات إلى أسباب معايشهم، وأبواب أرزاقهم، فجعلكم معشر الكتاب في أشرف الجهات أهل الأدب، والمروءة، والعلم، والرواية، بكم تنتظم للخلافة محاسنها، وتستقيم أمورها، وبنصائحكم يصلح الله للخلق سلطانهم، وتعمر بلادهم. لا يستغني الملك عنكم، ولا يوجد كاف إلا منكم، فموقعكم من الملوك موقع أسماعهم التي بها يسمعون، وأبصارهم التي بها يبصرون، وألسنتهم التي بها ينطقون، وأيديهم التي بها يبطئون، فأمتعكم الله بما خصكم من فضل صناعتكم ولا نزع عنكم ما أضفاه من النعمة علميكم!
وليس أحد أحوج إلى اجتماع خلال الخير المحمود، وخصال الفضل المذكور المعدودة، منكم أيها الكتاب، إذا كنتم على ما يأتي في هذا الكتاب من صفتكم فإن الكاتب يحتاج من نفسه، ويحتاج منه صاحبه الذي يثق به في مهمات أموره أن يكون حليماً في موضع الحلم، فهيماً في موضع الحكم، ومقداماً في موضع الإقدام، ومحجماً في موضع الإحجام، مؤثراً للعفاف، والعدل والإنصاف، كتوماً للأسرار، وفياً عند الشدائد، عالماً بما يأتي من النوازل، ويضع الأمور مواضعها، والطوارق أماكنه. قد نظر في كل فن من فنون العلوم فأحكمه، فإن لم يحكمه أخذ منه بمقدار يكتفي به، يعرف بغريزة عقله، وحسن أدبه، وفضل تجربته، ما يرد عليه قبل وروده، وعاقبة ما يصدر عنه قبل صدوره؛ فيعد لكل أمر عدته وعتاده، ويهيئ لكل وجه هيئته وعادته. فتنافسوا يا معشر الكتاب، في صنوف الآداب، وتفقهوا في الدين، وابدأوا بعلم كتاب الله عز وجل والفرائض، ثم العربية فإنها ثقاف ألسنتكم.
ثم أجيدوا الخط فإنه حلية كتبكم، وارووا الأشعار، واعرفوا غريبها ومعانيها. وأيام العرب والعجم، وأحاديثها وسيرها، فإن ذلك معين لكم على ما تسموا إليه هممكم. ولا تضيعوا النظر في الحساب فإنه قوام كتاب الخراج، وارغبوا بأنفسكم عن المطامع سنيها ودنيها، وسفساف الأمور ومحاقرها، فإنها مذلة للرقاب، مفسدة للكتاب، ونزهوا صناعتكم عن الدناآت، واربأوا بأنفسكم عن السعاية والنميمة وما فيه أهل الجهالات، وإياكم والكبر والصلف والعظمة، فإنها عداوة مجتلبة من غير إحنة، وتحأبوا في الله عز وجل في صناعتكم، وتواصوا عليها بالذي هو أليق بأهل الفضل والعدل والنبل من سلفكم.
وإن نبا الزمان برجل منكم فاعطفوا عليه وواسوه حتى يرجع إليه حاله، ويثوب إليه أمره؛ وإن أقعد أحدكم الكبر عن مكسبه ولقاء إخوانه، فزوروه وعظوه وشاوروه، واستظهروا بفضل تجربته، وقدم معرفته. وليكن الرجل منكم على من اصطنعه واستظهر به ليوم حاجته إليه أحفظ منه على ولده وأخيه. فإن عرضت في الشغل محمدة فلا يضيفها إلا إلى صاحبه، وإن عرضت مذمة فليحملها هو من دونه. وليحذر السقطة والزلة والملل عند تغير الحال، فإن العيب إليكم معشر الكتاب أسرع منه إلى الفراء؛ وهو لكم أفسد منه لها.
فقد علمتم أن الرجل منكم إذا صحبه الرجل، يبذل له من نفسه ما يجب له عليه من حقه، فواجب عليه أن يعتقد له من وفائه، وشكره، واحتماله، وصبره، ونصيحته، وكتمان سره، وتدبير أمره، ما هو جزاء لحقه، ويصدق ذلك بفعاله عند الحاجة إليه، والاضطرار إلى ما لديه.
فاستشعروا ذلك وفقكم الله من أنفسكم في حالة الرخاء، والشدة والحرمان، والمواساة، والإحسان، والسراء، والضراء، فنعمت الشيمة هذه لمن وسم بها من أهل هذه الصناعة الشريفة! فإذا ولي الرجل منم أو صير إليه من أمر خلق الله وعياله أمر، فليراقب الله عز وجل، وليؤثر طاعته، وليكن على الضعيف رفيقاً، وللمظلوم منصفاً، فإن الخلق عيال الله وأحبهم إليه أرفقهم بعياله. ثم ليكن بالعدل حاكماً، وللأشراف مكرماً، وللفيء موفراً، وللبلاد عامراً، وللرعية متألفاً، وعن إذائهم متخلفاً؛ وليكن في مجلسه متواضعاً حليماً، وفي سجلات خراجه، واستقضاء حقوقه رفيقاً، وإذا صحب أحدكم رجلاً فليختبر خلائقه، فإذا عرف حسنها وقبيحها أعانه على ما يوافقه من الحسن واحتال لصرفه عما يهواه من القبيح ألطف حيلة، وأجمل وسيلة. وقد علمتم أن سائس البهيمة إذا كان بصيراً بسياستها التمس معرفة أخلاقها، فإن كانت رموحاً لم يهجها إذا ركبها، وإن كانت شبوباً اتقاها من قبل يديها، وإن خاف منها شروداً توقاها من ناحية رأسها، وإن كانت حروناً قمع برفق هواها في طريقها، فإن استمرت عطفها يسيراً فيسلس له قيادها. وفي هذا الوصف من السياسة دلائل لمن ساس الناس وعاملهم وخدمهم وداخلهم.
والكاتب بفضل أدبه، وشريف صنعته، ولطيف حيلته، ومعاملته لمن يحاوره من الناس ويناظره، ويفهم عنه أو يخاف سطوته، أولى بالرفق بصاحبه ومداراته، وتقويم أوده من سائس البهيمة التي لا تحير جواباً، ولا تعرف صواباً، ولا تفهم خطاباً، إلا بقدر ما يصرها إليه صاحبها الراكب عليها. ألا فأمعنوا رحمكم الله في النظر، وأعملوا فيه ما أمكنكم من الروية والفكر، تأمنوا بإذن الله ممن صحبتموه النبوة والاستثقال والجفوة؛ ويصير منكم إلى الموافقة، وتصيروا منه إلى المؤاخاة والشفقة إن شاء الله تعالى.
ولا يجاوزن الرجل منكم في هيئة مجلسه وملبسه ومركبه ومطعمه ومشربه وبنائه وخدمه وغير ذلك من فنون أمره، قدر حقه، فإنكم مع ما فضلكم الله به من شرف صنعتكم خدمة لا تحملون في خدمتكم على التقصير، وحفظة لا تحتمل منكم أفعال التضييع والتبذير. واستعينوا على عفافكم بالقصد في كل ما ذكرته لكم، وقصصته عليكم، واحذروا متالف السرف، وسوء عاقبة الترف، فإنهما يعقبان الفقر ويذلان الرقاب، ويفضحان أهلهما ولا سيما الكتاب، وأرباب الآداب، وللأمور أشباه وبعضها دليل على بعض، فاستدلوا على مؤتنف أعمالكم بما سبقت إليه تجربتكم، ثم اسلكوا من مسالك التدبير أوضحها محجة، وأصدقها حجة، وأحدهما عاقبة.
واعلموا أن للتدبير آفة متلفة، وهي الوصف الشاغل لصاحبه عن إنفاذ عمله ورؤيته، فليقصد الرجل منكم في مجلسه قصد الكافي من منطقة، وليوجز في ابتدائه وجوابه، وليأخذ بمجامع حججه، فإن ذلك مصلحة لفعله، ومدفعه للتشاغل عن إكثاره، وليضرع إلى الله في صلة توفيقه، وإمداده بتسديده، مخافة وقوعه في الغلط المضر ببدنه وعقله وأدبه، فإنه إن ظن منكم ظان، أو قال قائل، إن الذي برز من جميل صنعته وقوة حركته، إنما هو بفضل حيلته، وحسن تدبيره، فقد تعرض بظنه أو مقالته إلى أن يكله الله عز وجل إلى نفسه، فيصير منها إلى غير كاف. وذلك على من تأمله غير خاف.
ولا يقل أحد منكم إنه أبصر بالأمور وأحمل لعبء التدبير من مرافقه في صناعته، ومصاحبه في خدمته، فإن أعقل الرجلين عند ذوي الألباب من رمى بالعجب وراء ظهره، ورأى أن صاحبه أعقل منه وأحمد في طريقته، وعلى كل واحد من الفريقين أن يعرف فضل نعم الله جل ثناؤه من غير اغترار برأيه، ولا تزكية لنفسه، ولا تكاثر على أخيه أو نظيره، وصاحبه وعشيره، وحمد الله واجب على الجميع: وذلك بالتواضع لعظمته، والتذلل لعزته، والتحدث بنعمته.
وأنا أقول في كتابي هذا ما سبق به المثل من يلزم الصحة يلزمه العمل وهو جوهر هذا الكتاب وغرة كلامه، بعد الذي فيه من ذكر الله عز وجل؛ فلذلك جعلته آخراً وتممته به. تولانا الله وإياكم يا معشر الطلبة والكتبة بما يتولى به من سبق علمه بإسعاده وإرشاده! فإن ذلك إليه وبيده. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.